من منا من لا يحب التميز ، بأي شكل من الأشكال ، سواء على المستوى الشخصي أو مستوى البيئة المحيطة ، ربما الكل يطمح للأفضل دائما والتميز مؤشر واضح للأفضلية دائما . ولعل التميز يعد أحد أوجه الجودة التي دخلت بوصفها مفهوما في البداية على المؤسسات التجارية وما تتاجر به من بضائع تحت مظلة هيئة المواصفات والمقاييس التي تعمل وفق معايير عالمية أكتب اليوم عن الجودة في بيئتنا المحلية ، حيث كانت هذه بداياتها ، ومع التطورات المستحثة الخطى في الميدان التعليمي الرحب ولجت مفاهيم الجودة من أوسع الأبواب حتى لكأنها أوشكت على أن تخطف الألباب والأبصار من قوة الموجة التي دخلت بها على ميدان التعليم الجامعي .لعل مما يؤكد رأيي باقتحام مصطلح الجودة الشاملة للنظم التعليمية ما حصل في إحدى الندوات العلمية بالمؤتمر العلمي السنوي لتطوير أداء الجامعات في ضوء معايير الجودة الشاملة ونظم الاعتماد الأكاديمي ؛ حيث تقدم الدكتور فايز مراد بإطار مرجعي عن معايير مقترحة لجودة التعليم في مصر ، متحفظا على استعمال مصطلح الجودة الشاملة في عنوان المؤتمر ، وكانت رؤيته مستندة إلى تحليل أحد الباحثين في هذا المجال وهو إبراهيم حسن [ 1993 ] الذي أشار إلى أن الحديث عن الجودة الشاملة يميل أكثر إلى الارتباط بالمجالات الأخرى حيث ارتبط بما يحدث فى مجال اتفاقات التجارة الحرة وحرية تداول المنتجات السلعية والخدمات ، ولقد انعكس ذلك في المجال التربوي بنشأة حركة المعايير القومية منذ ثمانينيات القرن الماضي التي أدت إلى مشروعات لعمل معايير في مجالات مختلفة في بعض الدول العربية .فى هذا الإطار فإن المفارقة تكمن في وجود المفهومين التقليدي والحديث لجودة التعليم بغض النظر عن مناسبة المصطلح للمجال التربوي أم التجاري ، المفهوم التقليدي الذي ارتبط بعمليات الفحص والتحليل والتركيز فقط على الاختبارات التحصيلية بصيغتها التقليدية دون مراجعة للقدرات والمهارات الإدراكية والحركية والمنطقية والسلوكية التي فطن إليها العلم التربوي منذ السبعينات ، لذلك تحول هذا المفهوم التقليدي للجودة في التعليم إلى تأكيد جودة التعليم الذي يستند بالدرجة الأولى إلى ضرورة اختيار معدلات نمطية للأداء وبناء منظومات لإدارة جودة التعليم ، ومع صعوبات التطبيق ظهرت أهمية بالغة لتطبيق إدارة الجودة في التعليم التي تحتاج إلى مشاركة الجميع لضمان البقاء والاستمرارية لمؤسسات التعليم وهو أسلوب تحسين الأداء من كافة أطراف العملية التعليمية بكفاءة أفضل.من هنا ظهرت نداءات تربوية في التعليم الجامعي تناشد بوضع معايير تضمن جودة الأداء وتميزه بما يكفل للجامعة الحصول على الاعتماد الأكاديمي الذي يعد امتياز لا يحصل عليه إلا المميز من بين جامعات العالم ، وهنا أصبحنا بحاجة ماسة إلى تعميق ثقافة الجودة بتأصيل برامجها وإشراك المسئولين في إدارة المؤسسة التعليمية والطلاب وأعضاء هيئة التدريس ليصبحوا جزءا رئيسا من برنامج ثقافة الجودة وعاملا مساهما بفاعلية في إنجاح مشاريعها .لا شك أن هذا المشروع الضخم الذي ينادي باعتماد معايير الجودة الشاملة في كافة نطاقات العمل التعليمي بات هاجسا يؤرقنا في الجامعات السعودية الناشئة منها على وجه الخصوص ، فأصبحنا نستبق الأحداث ونود أن تعانق آمالنا وطموحاتنا واقعنا مغفلين تلك الأشواط البعيدة التي نحن بحاجة لقطعها كي نصل إلى تحقيق تلك الشعلة المضيئة بقمة الهرم التعليمي التي تسمى بالجودة الشاملة ؛ فنحن أضحينا ندرس تلك المعايير ونعقد الورش التدريبية والندوات والمؤتمرات للفئات المستهدفة بغرض توعيتهم وتدريبهم على مبادئ الجودة وأساليب تحقيقها ، وننسى أن ما نحن بصدده أمر عظيم ، نتحدث عنه وواقعنا يناقضه ، فالجودة الشاملة ينطبق عليها المثل القائل ( اليد الواحدة لا تصفق ) فليس من مشكلة أن أشبع عضو هيئة التدريس بالجامعة بمفهوم الجودة وكيف ينبغي عليه أن يسعى لتحقيقها في عمله وعلاقاته ، ولكن أين نحن من الطلاب ، أين نحن من المباني التعليمية ، أين نحن من التجهيزات والبيئة الفيزيقية ؟! أين نحن من العالم المحيط بأسره ؟! هنا لابد أن نقف وقفة تأمل نحدد معها موقعنا بين مصاف الجامعات العالمية ، وعلى أي عتبة من عتبات التطور نحن كي ننطلق منها وليس مما فوقها، ونحدد ما المعايير التي يمكن تطبيقها في الوقت الراهن وفق الإمكانات المتاحة ، لكن أن نطلب مثلا من عضو هيئة التدريس تصميم مقرره الكترونيا في حين لا توجد خدمة الانترنت بالكليات الجامعية ، أو حتى خدمة الانترانت التي تسهل التواصل الداخلي بين إدارات المؤسسة ، أو حتى معامل حاسب آلي مجهزة داخل الكلية لتعليم الكتروني فعال ومتطور ، فهذا بلا شك سيكون من المستحيلات التي تقول لك ابدأ وغيرك لن يبدأ .إن مفهوم الجودة في التعليم بشكل عام والتعليم الجامعي بشكل خاص يرتبط ببعدين أحدهما واقعي والآخر حسي ؛ فجودة التعليم الجامعي ببعدها الواقعي تعني التزام المؤسسة التعليمية بإنجاز مؤشرات لتحقيق معايير حقيقية متعارف عليها دوليا كمعدلات تكلفة التعليم الجامعي ، أما البعد الحسي لمفهوم الجودة فيهتم بمشاعر وأحاسيس القائمين على البرامج التعليمية بالمؤسسة التعليمية كأعضاء هيئة التدريس والمسؤولين والإداريين والفنيين والمتلقين لها كالطلاب وأولياء الأمور والمجتمع ، وهنا لا بد أن ننظر ببؤرة المركز الذي تقف عنده خطواتنا على سلم الجودة وفق ما يعنيه هذان البعدان .